عن الكتاب
كل مَن عاشر “شوقي” يعلم أنه عاش معجونًا بطيبة لو وزعت على عزبة “الطيبين” لوسعتها، وكأن “الطيبين” قد استمدت منه اسمها، لولا أنه لم يجاوز منتصف العقد الثالث لحسب الناس ذلك، هو ابن وحيد للحاج “علام” النجار، الرجل الذي حط بمنشاره وفأرته وإزميله وعدة شواكيش في عزبة “الطيبين” منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حاملًا حقيبة أدواته في يد وقرة عينيه في اليد الأخرى، لم يرَ الناس له زوجة، كانوا كلما سألوه اكتفى بسحب نفس من سيجارته الرخيصة ليخرجه بعدها يلف عبارة واحدة:– في ذمة الله. ربما كان شوقي وقتئذ صغيرًا. ربما ذعر لمرأى أمه، جسدها ينتفض ثم يسكن.ربما غرس المشهد داخل قلبه الغض أظافر تركت آثارًا، وكلما مستها الذكريات أصابته رجفة الألم ودوار الغثيان. لكن ثمة شيء ما في ذكورته الناشئة ألهمه الصمت، إحساس دفين بأن ما اقترفه والده حيال خيانة الأم هو عين العدل وصرة ميزانه، كان كلما صكت إجابة أبيه مسامعه اكتفى بحركة متوترة -لا يتعمدها- من بؤبؤي عينيه تجاه الأب فلا يميز من ملامحه التي يلفها دخان السجائر شيئًا يُذكر، فإذا انقشعت سحب الدخان ألفى “شوقئي” أباه غارقًا في شخير متواصل كأنه محركًا يعاني عطبًا ما!